في الحقيقة لا أحتاج كثيرًا إلى «يوم الأب» لأتذكر أبي الراحل وأفضاله بعد الله على العبد لله، فكل يوم أستدعيه في ذاكرتي هو ووالدتي الراحلة، وأقول «ربِ ارحمهما كما ربياني صغيرا»، فهذان العظيمان، الأب والأم، لا تكفي عشرات الكتب للحديث عن دورهما وكفاحهما في تربية الأبناء.
ولـ«رمضان الأب» مواقف عديدة لن تمحوها الأيام، فهذا الرجل لطالما كنت أسمع دعواته ساجدا وهو يرجو من الله «دوام الرزق الحلال»، حيث إن «الأسطى رمضان» بعد خروجه على المعاش من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 1998 لم يتقاعس ويمكث في منزله ليلعب الدومينو أو الكوتشينة مكتفيا بالمعاش، رغم أنه حق مشروع لرجل تجاوز الستين عاما في ذلك الوقت، لا أقصد «الدومينو والكوتشينة» بالطبع إنما أقصد الراحة التامة والاسترخاء والاستمتاع بما تبقى من العمر، ولكن لأن يده اعتادت العمل والشقاء فواصلت السعي، وكان «رمضان الأب» يعمل كهربائيا، وهي المهنة التي امتهنها أثناء فترة عمله في الجهاز، وظل الرجل يتولى صيانة وتركيب الكهرباء للناس ويدخل بيوتهم ويحفظ أسرارهم ويصب تركيزه في «السلك أو اللمبة أو المفك التيست» الذي في يده مبتعدا عن حياة الناس الخاصة.
بعض الناس كانت لا تقدِّر تعب «الأسطى رمضان» الرجل المسن الذي ظل يعمل في مهنة خطيرة وشاقة مثل الكهرباء حتى تجاوز السبعين من عمره، ففي يوم وجدته يقول لنا شاكيًا «طلعت 90 سِلِّمة واشتغلت وفي الآخر خدت 5 جنيه.. الحمد لله»، وكانت هذه الخمسة جنيه تحمل البركة للمنزل كله، فكنا نحضر عشاءنا بها، أو نشتري بها مستلزمات دراستنا في ذلك الوقت، وكأن دعوة «رمضان» بـ«الرزق الحلال» كانت مستجابة.
كان والدي رحمه الله يتمتع بقوة بدنية، لا تقل شيئا عن قوة إرادته وإيمانه بالله، فكان السبعيني يحمل السلم الخشبي بذراع واحدة، وكان يمسك بالمطرقة ويضرب الحائط بيد لا تعرف الارتعاش، وأذكر أنه عندما شُرخت قدمي تحت عجلات سيارة أثناء لعبي الكرة، حملني على كتفه إلى «استقبال المستشفى» لعمل جبيرة لقدمي، ولعل هذه القوة والإرادة اكتسبها بسبب ممارسته للمصارعة الرومانية في شبابه ومشاركته في نصر أكتوبر 1973 حيث أصيبت ساقه بشظية تركت جرحا غائرا إلا أنها لم تسبب له أي إعاقة بفضل الله.
على مائدة الطعام كان «الأسطى رمضان» يتناول طعامه سريعا ويسبقنا قائلا: «أنا آكل أكل الجِمال وأقوم قبل العيال»، ولكن إذا كان لدينا ضيوف يعدِّل مقولته قائلا «وأقوم قبل الرجال»، وكان إذا «اتقمص» أحدنا من الطعام ولم يعجبه يقول له «رمضان الأب»: «اللي ياكل على ضرسه بينفع نفسه» فتقع هذه المقولة كالسحر على أطفال في سننا فيتغير شكل الطعام في أعيننا ونجد أنفسنا نتناوله بنفس راضية.. هذا هو الأب الذي يفتح شهية أبنائه ويلقنهم درس القناعة بأبسط الكلمات.
بعد تناول الطعام، كانت الأسرة تلعب الكوتشينة وتحديدا «لعبة الشايب»، لأنها أكثر لعبة كوتشينة خفيفة الظل وتناسب العائلة، وكانت أحكام «رمضان الأب» على الخاسر في اللعبة طريفة للغاية، فكان يقول له «يلا قوم اعمل لنا طقم شاي»، أو «قول أنا قرد»، وللحق أننا أصبحنا نفتقد مثل هذه الجلسات العائلية الطريفة التي ماتت الآن بسبب السوشيال ميديا والوسائل الحديثة التي أسيء استخدامها وأحدثت حالة من التفسخ الاجتماعي الرهيب.
في المصيف كانت لنا أيام ممتعة مع والدي، مجرد تذكرها يخفق القلب وينعش الروح، كنا نذهب إلى جمصة أو رأس البر ضمن مصيف الجهاز المركزي للتعبئة العامة الذي كان يعمل فيه أبي، وكان الراحل غواصا ماهرا يغطس تحت الماء وتبحث عنه لتجده قد أطل برأسه من خلفك ضاحكا أو يرش الماء في وجهك ممازحا، فيكون اليوم الأخير في أيام المصيف بمثابة كابوس لأننا سنحرم من هذه اللحظات الممتعة الرائعة وننتظرها تعود في الصيف المقبل.
أمام التلفاز كانت ذاكرة «رمضان الأب» ومعرفته لكل أسماء الفنانين حاضرة بقوة، وربما من الأشياء التي ورثتها عنه حب الفن الجميل ونجومه، كنا نجلس أمام الشاشة محدقين أعيننا فيفاجئنا الراحل «تعرفوا الممثل ده اسمه إيه؟».. «لا، اسمه إيه؟».. «عبدالرحيم الزرقاني».. «وده عايش ولا ميت؟».. «يوووووووه، ده مات وشبع موت».
في أواخر عام 2011 اهتز «جبل الخير والإرادة»، أصيب والدي بجلطة نتيجة مضاعفات مرض السكر الذي أصابه لعدة سنوات، هزم المرض جسده إلا أنه لم يهزم إرادته فكان يحافظ على الصلوات بل إنه حاول ذات مرة أن يمسك بالمفك ويصلح كشاف «اللمبة النيون» مستعيدا أمجاده في الكهرباء، وكانت المفاجأة أنه نجح في تركيب اللمبة، حارب «رمضان الأب» المرض 5 سنوات (2011-2016) حتى التقى ربه في فجر يوم 1 فبراير 2016 وظل جثمانه الطاهر في منزله ليلة كاملة لأنه توفي في وقت متأخر، وكانت هذه فرصة لإلقاء نظرة الوداع والدعاء لهذا الرجل الذي رحل بعد أن أدى رسالته بإخلاص وصبر وقوة.. نَم قرير العين يا رمضان، فلقد تركت أبناء صالحين يدعون لك.